
رقعة الخوف تتسع في الداخل ..
على بعد نصف ساعة من هنا .. عالم آخر ..!
دم متخثر ..وصراخ لا يقطعه إلا الترحُّمات .. وعويل أخرس ..!
بيوت غادرها أهلوها فسكنتها البنادق ..
رعد بشريّ يُصمّ أذن السماء ..
وخلف التلاّت رجال زرعوا آلاف العيون والآذان بعد أن قلعوا ألسنتهم مؤقتاً .. تربُّصاً بالموت ..!
عيون تحرس الليل من ضوء طارئ يبدو كـ سيجارة ..
ووقع خطىً يفتح شهية الموت ..!
قلمٌ يستحضر الصور والمشاهد لينتهك بها براءة الورق ..! وقلم تمسك به قبضة متوترة .. تمحو أكثر مما تكتب ..!
حين تستعد لك الحرب قبل أن تستعد لها ..تتلعثم فيك الأبجديات .. وتحار البوصلة .. وتنسى أن تستودع الذكريات ..!
والقريب الغريب .. أصبح غريباً فقط ..!
:
:
:
الآمنون إلى حدٍ ما .. بل أقل من الحد الـ ما هذا – وأنا منهم- غارقون في بركة من الفرح الراكد .. لأنهم ابتاعوا ماشية من سوق المشردين .. بأسعار لم تعثر عليها خيالاتهم في بحبوحة أحلامهم ..
الحد الـ ما هؤلاء .. لم ينزفوا مثقال دمعة على ذلك السبعينيّ الذي عاد ليتوسل بدمع رخيص لجندي قتلت فيه الأوامر ما بقي من رحمة .. أن يعود لمنزله لدقائق .. لا ليلقي عليه نظرة أخيرة ..بل ليفك إسار مواشيه من سجن اسمه " الحضائر " ..
كان يخشى على رأس ماله الوحيد / ذكرياته .. أن يتعفن من أثر بهائمه التي تموت عطشاً وجوعاً حيث كانت تتراقص رياً وشبعاً ..!
لم تنهدّ أفئدتهم لأؤلئك الذين خرجوا من ديارهم حذر الموت .. زوّاداتهم ؛ سياراتهم / رواحلهم/ ظهورهم .. تحمل ما وقعت عليه يد الروع .. كل شيء يبدو في لحظة الروع غالياً ورخيصاً في نفس الوقت ..!
يخرجون هلعين ليصلوا إلى أبعد خطوة من خطوتهم التي يقفون عليها .. ولو كانت الخطوة التي تلي ..!
..
هذه العجوز التي تحمل متاعها فوق رأسها .. تبدو مسرعة أكثر مما يطيقه عمرها ..
أسألها .. إلى أين يا خالة ؟ لا تجيب .. ربما لم تسمع ..! يا خالة : إلى أين ؟ تشير إلى الشمال حيث ينتظرها الملجأ ! وتكمل المسير .. تدرك أنها لو تكلمت .. لبكتْ .. ولو بكت لفاتها أن تظفر بوسادة تنام عليها .. لذا تؤثر دمعاً مؤجلاً بوسادة ..!
::
محظوظون ..!
من لهم أقرباء هذه الأيام ..!
محظوظون جداً ..
يقتسمون معهم اللقمة والنومة .. وينغلق عليهم باب ..!
غير أنهم لن يستطيعوا مهما حاولوا أن يقتسموا الحيرة والذهول والغياب ..!
من حسن حظي أنني لم أذهب إلى هناك .. ولن أذهب حتماً ..!
أخشى على كثير من المشاعر التي قدّستها روحي ..أن تطالها يد الحرب .. ظناً كان ذلك مني أو وهماً ..!
أخشى إن ذهبت أن تطال مشاعري " الزجاجية " يد الحرب .. فأتكسّر ..!
" فأدمى .. ويُدمى عليّ ..!"
::
الطريق المؤدي إلى قريتي النائمة على الوادي يمر عبر أشجار كثيفة من الأثل والأراك .. أعبره ليلاً فأتسمر في مقعدة السيارة .. أمسك مِقود السيارة بتوتر مفرط .. أنظر شزراً يمنة ويسرة دون أن ألتفت .. وسؤال يجيء ويذهب كقلب يتهيأ لمشرط جرّاح يسألني : هل ستسمع صوت الرصاصة التي قد يكون نصيبها جمجمتك أم لا ..؟!
فيما مضى كنت أبطئ السير في هذا الطريق حتى أكاد أن أقف ..أستمتع بالظلام فأطفئ مصابيح الإضاءة لأجرب مهارتي في حفظ الطريق ، أو أطفئها ليضيء لي البدر ما أظلم فيّ .. حين كنت أوشك في داخلي على الموت !
اليوم أحببت الحياة .. لا لشيء إلا لأنني أكره الموت الذي يأتي ساذجاً .. له رائحة ولا طعم له !
::::::
ابنتي ذات الست سنوات تقول :
- بابا .. الحوثيين اللي في جبل دخان يلبسون عبايات عشان ما يعرفونهم ..
= أجيبها : لا يا بنتي .. يعرفونهم ويمسكوهم ..
- طيب بابا .. يقولون هم يمسكون البنات الصغار .. بابا أرجوك اشتري لي عباية عشان يحسبوني بنت كبيرة وما يمسكوني .
= ابشري يا بنتي .. ابشري .. وأغرق في وحل تفكيري .. ولا أصحو إلا على صوتها في غرفتها المجاورة وهي تنشد : يا إلهي أنت ربي .. كل خير منك ربي ....
::::
الساعة الواحدة ليلاً ..
ولا أدري ما يفعل الله بأؤلئك الذين يتثاءبون من تكرار المشهد .. أدمغتهم لم يفزعها جشاء المدافع أو تأتأة البنادق ..صار صوتها أذان نومهم .. وصمتها إقامتهم ..
بينما ينذرني صوت المكيف بدفئه أو برده في كل مرة دون أن أملّ أو يملّ هو ..
وما بين الصوتين أنام وينهدّون .. وأستيقظ ويفزعون ..!
أحياناً أقدّر بأن أناساً هناك .. ذاقوا مرارة الحرب و"حلاوتها" تمنوا لو نشبت الحرب منذ أمد ..! لا تمنّياًَ للموت وليس زهداً في الحياة .. ربما لأنهم ملكوا صكوكاً تضمن لهم مطعماً ومشرباً ومناماً .. وحياة خالية من " همّ البحث " !
يودون لو تكف الحرب وتستمر الحياة كما هي الآن !
ويخشون لو تكف الحرب وتعود الحياة كما كانت !
:::
حين تستعد لك الحرب أكثر ..
يتخندق الآخر فيك كـ سرطان .. ويتخذ ملاجئ داخلك لا تبصرها للوهلة المئة .. يغلق أبواباً دون رؤيتك له .. وحين يكاد يُقضى عليك تصحو متخبطاً .. تبدأ من كل الجهات ولا تستدل هدفك.. وتصنع شموساً فلا تبصر غير ظلامك .. وتصرخ بأعلى صوتك فيموت على عتبات شفاهك.. ويصمت غيرك فيصل صوته الأسماع .. تمسك بقوة كل شيء .. فيبدو في قبضتك خيط عنكبوت .. وتحدق في العتمة لترى فـ تُرى .!
حينها تود لو تدكّ ذاتك وتعيدها نشأة أخرى في طرفة موت !
..
::
حين فرغت الآن من كتابتي ..هل كنت شجاعاً بما يكفي ..؟
ربما ..!
أدنى ما في الأمر أنني امتلكت قدراً من الشجاعة مكّنني من إشهار يدي وغرزها في عيون لوحة مفاتيحي وإطلاق رصاصات رحمة على مشاعري ..
حين أخطيء أحياناً هدفي ..أتداركه بالباك سبيس .. وحين لا يبقى في المعنى رمق .. وأظن أنني أجهزت عليه أنتقل لغيره بضغطة إنتر .. هكذا .!
حتى أصل إلى آخر الروح .. وأقف .!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق